المبارك الميمون.
ثم إن النبي أمر سيدنا عليًّا كرم الله وجهه بالمبيت في مضجعه وأن يلبس بردته وطمأنه أنه لن يصيبه مكروه بإذن الله.
وخرج عليه الصلاةُ والسلام مع أبي بكر الصديق ليلاً ومكثا في غار ثور قرب مكة، ولكن المشركين بثوا العيونَ والأرصاد ووعدوا بالجوائز لمن يظفر بالنبيّ ويأتي به، وباتوا مترصدين فلما أصبحوا ذهبوا إلى مضجعه فأبصروا سيدنا عليًّا فبهتوا وخيّب اللهُ سعيهم وأعمى أبصارهم.
نام في بردة النبيّ عليّ * كي يضلّ الأرصادُ والرقباءُ
ومشى المصطفى يخوض المنايا * والمنايا مشلولة عمياءُ
وهكذا ظفر الغار بشرف ضيافة النزيلين الكريمين ثلاثة أيام، وكان عامر بن فُهيرة مولى سيدنا أبي بكر يمر عليهم بالأغنام فيحتلبان. وكان عبد الله بن أبي بكر يوافيهما بما يجد من الأخبار، حتى سكن من ورائهما الطلب، وغفل عنهما الناس.
وفي اليوم الرابع وافاهما عبد الله بن الأريقط براحلتين فخرجا إلى المدينة. وفي الطريق أدركهما سراقة، وظن أن الفرصة سانحة لربح الجائزة، ولكن فرسه عثر به وساخت في الأرضِ قوائمه، وأحدق به إعصار، عندها استغاث سراقة ووعد أن يكتم أمرهما، ووفى سراقة بما وعد.
ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه إلى المدينة كان النصر والتأييد من الأنصار، وءاخى الرسول بينهم وبين المهاجرين فكانت نقطة تحول مهمة كسبت منها الدعوة الإسلامية قوة واندفاعًا، وذيوعًا وانتشارًا، وأعوانًا وأنصارًا.
وشاعَ في نفوس المؤمنين سرور اللقاء فالإسلام يدعوهم إلى العدل والإحسان، وينهاهم عن البغي والعدوان، ويؤلف بين قلوب كانت فرّقتها الجاهلية، ويجمع كلمات مزقتها العصبية. وأمرهم نبيّهم بإفشاء السلام وهو عنوان المودة والرحمة، وأمرهم بإطعام الطعام وهو ءاية التعاون والتراحم، وبصلاة الليل والناس نيام وهي صلاة الأوابين المتبتلين.
لم تكن هجرته صلى الله عليه وسلم جُبنًا أو فرارًا بل كانت انتقالاً من دار صعب فيها نشر الدعوة إلى دار وضع فيها أساس الدولة الإسلامية العظيمة، فتألفت قلوب الأوس والخزرج وتآخى المهاجرون مع الأنصار فصارت الهجرة فرقانًا بين الحق والباطل وكثر المؤمنون بعد قلة واجتمعوا بعد شتات.
إن علينا أن نعتبر بمعاني الهجرة ونأخذ منها الدروس والعظات؛ ففي الهجرة مفارقة للوطن والأهل والديار والأموال، وفي هذا ثبات المؤمن على عقيدة الحق، وصبر وعزم وتضحية جعل الله فيها الثواب الجزيل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :"إنّما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".