ذكر في كتب التفسير ان هذه الآية أنزلت على الرسول(ص) في طريق العودة من حجه الأخير الى مكة المكرمة (حجة الوداع). والدارج إنها كانت آخر آية أنزلت على حضرته. ووضعت هذه الآية في سورة المائدة وكانت السورة قد نُزّلت أصلا في السنة السادسة أو السابعة بعد الهجرة.*
هذه الآية وكذلك اختها الآية رقم 40 في سورة الأحزاب يراهما الناس مكملتان احداهما للأخرى في إثبات فكرة ان دين الإسلام هو آخر الأديان المنزلة. وتداولنا موضوع الآية 40 في سورة الأحزاب في صفحات أخرى في هذا الموقع.
والآن عندما ننظر الى موضوع إكمال الدين وإتمام النعمة في القرآن الكريم نجد ان هناك آيات عديدة أخرى بنفس المعنى أو معنى مشابه للآية رقم 3 في سورة المائدة. فنرى مثلاً إن الله أتم نعمته في زمن إبراهيم وإسحاق (عليهما السلام) وكذلك على آل يعقوب (كما نرى في الآية):
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - (سورة يوسف - آية 6)
ونرى أيضاً إنه تعالى أتم الكتاب على موسى(ع):
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون - (سورة الأنعام - آية 154)
ونقرأ أيضا إن إتمام النعمة ليس لكل من تسمى بالإسلام بل هو مقرون بإتّباع أوامر الله ومرتبط بخشيته:
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - (سورة البقرة - آية 150)
وكذلك نرى في الإنجيل مقاطع فهم منها اتباعه صفة الإكتفاء والكمال في دينهم:
وانتم مملوؤون فيه الذي هو راس كل رياسة وسلطان. - كولوسي 2 - 2: 10
يسلم عليكم ابفراس الذي هو منكم عبد للمسيح مجاهد كل حين لاجلكم بالصلوات لكي تثبتوا كاملين وممتلئين في كل مشيئة الله. - كولوسي 4 - 4: 12
فهنا نرى ان رسالات الله عز وجل كلها تامة وكاملة. وبالطبع, وكيف لا والكمال لله في كل شئ؟ فحاشى ان يكون لشريعة الله وصنعه صفة ً غير الكمال أو ان يكون لعمله غير النفاذ والتمام ونستعيذ به من هذه الفكرة ومن قصر العقول وقلة الإدراك.
والآن لربما يصر أو يحاجج البعض بأن نعم, .. الأديان السابقة كانت كلها تامة إلا ان صفة الكمال إختصها الله فقط لدين الإسلام وهي صفة مفضلة على التمام. وبالطبع لربما يكونون على حق في فهمهم والله أعلم, ولو إن هذا يتطلب التفسير والإجتهاد وهذا ما حذرنا منه الله عز وجل في كتابه. فمالذي يجعلنا نصِرّ مثلا على ان المعنى هنا هو الكمال وليس الإكمال أو الإتمام عندما نرى بكل وضوح ان الفعل يستعمل أحيانا بهذا المعنى كما نرى في هذه الآيات:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - (سورة البقرة - آية 185)
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ - (سورة البقرة - آية 196)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ - (سورة البقرة - آية 233)
لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ - (سورة النحل آية 25)
وليس الغرض هنا ان نذكر أي من المعاني هو الصحيح لأن كما ان كلمات الله ليس لها نفاذ فمعانيها ايضا ليس لها نفاذ ولا يصح لنا ان نصرَّ على ان رأينا وحده هو الصواب فحتى من الناحية اللغوية نجد مثلاً ان للكمال درجات وإلا فليس هناك لزوم لكلمة "أكمل أو الأكمل" في القواميس. وفي كتابه "الإنسان الكامل" يقول الجيلي وهو من كبار المتصوفين: وكما ان ليس بعد الفاضل إلا الأفضل فإنه ليس بعد الكامل إلا الأكمل. - إنتهى -
والكمال لله وحده أكمل الأكملين:
وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ - (سورة النحل آية 81)
ونرى ان البارئ عز وجل قد زودنا في كل رحلاتنا بكل مانحتاجه من لوازم ومتاع فهل لنا ان نيأس من عونه في رحلاتنا القادمة؟
--------------------------------------------------------------------------------
ونعود في موضوعنا هذا عن الآية الثالثة من سورة المائدة ونرجع الى كلمة "الإسلام" في الآية الكريمة. فمن المهم هنا ان ندرك ان هذه الكلمة إضافة لكونها تطلق على دين المسلمين أتباع الشريعة المحمدية فهي أيضاً ما يطلق على دين الله, دين التوحيد والتسليم بصورة عامة كما نرى في عديد العديد من الآيات الكريمة وتشمل كل من أسلم وجهه لله وخضع لإرادته.
ونكرر الرجاء أن نأخذ القرآن بتمامه كوحدة كاملة ولا ننسى الآيات التي تبين لنا ان لكل أمة أجل وكتاب . وكذلك دعنا لا ننسى الأيات عن عدم نفاذ كلمات الله ولن يسعها أي كتاب. وما دمنا في مجال التذكر والتذكير فدعنا لاننسى الآيات عن استمرار مجئ الرسل .
ارجع الى الصفحة الرئيسية