يعد الموطأ أول مؤلف في تاريخ الإسلام تناقلته الأجيال منذ تأليفه إلى الآن ثبتت تسميته إلى صاحبه الإمام مالك. وهو من أقدم الكتب المدونة في الفقه الإسلامي؛ فهو يجمع بين الحديث والفقه، فيذكر الأحاديث الواردة في المسألة الواحدة، ثم يذكر عمل أهل المدينة، وبعدها يعرض لآراء الصحابة والتابعين، ثم يسوق رأيه مبينا ومرجحا..
من المرجح أن كتاب الموطأ لم يكن كتاب حديث، ولم يكن القصد منه الرواية، وإنما القصد منه الاستدلال بالحديث على الحكم الفقهي.
منهجية مالك في تأليف الموطأ
لقد تولى الإمام مالك توضيح منهجه في تأليف كتاب "الموطأ"، وبيان ما اشتمل عليه من الأحاديث والآثار قائلا: "فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة والتابعين ورأيي. وقد تكلمت برأيي وعلى الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، ولم اخرج من جملتهم إلى غيره"(1).
وقد اعتمد مالك في بناء موطئه على الروايات المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو مرسلة، وعلى قضايا عمر، وفتاوى ابن عمر، ثم على أقوال الفقهاء السبعة وفقهاء المدينة، جاعلا أحاديث زيد بن أسلم أواخر الباب(2). ولما سئل عن حكمة ذلك قال: إنها كالسراج تضيء لما قبلها(3).
وقد بوبه على أبواب بحسب ما يحتاج إليه المسلمون في عباداتهم ومعاملاتهم وآدابهم من معرفة العمل فيها الذي يكون جريا بهم على السنن المرضي شرعا(4). وجعل بابا في آخره ذكر فيه ما لا يدخل في باب خاص من الأبواب المخصصة بفقه بعض الأعمال.
وقد بين القاضي "أبو بكر بن العربي" أن مالكا بوب الموطأ بحسب ما يراه من الحكم، فإذا كان الجواز قال: ما جاء في جواز كذا، وإذا كان ممنوعا قال تحريم كذا، وإذا أراد إخراج ما روي في الباب مع احتمال الأمرين أرسل القول كقوله: "باب الاستمطار في النجوم"(5).
نظرة أصولية لكتاب الموطأ
رغم أن الإمام مالكا لم يدون أصوله التي بنى عليها مذهبه، فإنه قد كتب بعضها، فكتاب "الموطأ" يتضمن البواكير الأولى لهذا العلم. بل من المؤكد أنه ضبط منهجيته الأصولية في موطئه، فنراه يأتي في المسألة بآية من الكتاب العزيز، فإن لم يجد فبحديث صحيح، فإن لم يجد فبعمل أهل المدينة، فإن لم يجد تخير أقوال الصحابة والتابعين، ثم اجتهد رأيه لا يحيد عن هذه الطريقة في موطئه أبدا.
إن لاختيارات مالك واستنباطاته الفقهية في كتاب "الموطأ" منزلة خاصة بالمقارنة مع الأقوال الأخرى المنسوبة إليه في سائر الأمهات، نظرا للمنزلة التي حظي بها الموطأ عند المالكيين، فهو في المرتبة الأولى بين كتب المذهب. وقد نص على ذلك ابن رشد بقوله: "وهي –أي المدونة- مقدمة على غيرها من الدواوين بعد موطأ مالك رحمه الله، يروى أنه ما بعد كتاب الله كتاب أصح من موطأ مالك ولا بعد الموطأ ديوان أفيد من المدونة"(6).
ولا شك أن لتقديم الموطأ على المدونة سببا يعود إلى أنه هو كتاب مالك الذي ألفه بنفسه، وقام بتدريسه طول حياته العملية. أما المدونة فإنها وإن كانت تدوينا لآراء مالك إلا أنها ألفت بطريق الرواية عنه مما استظهره ابن القاسم.
وإن نظرة إجمالية إلى كتاب الموطأ تبين لنا الفكرة الشمولية التي كان يتصورها الإمام مالك فيما يخص نقل المعرفة، وثبوت الخطاب الشرعي، كما توضح لنا كيفية استدلالات الإمام بالكتاب والسنة والإجماع واصطلاحاته في التعبير عن هذه الاستدلالات. كما توضح لنا أيضا أمثلة من فتاويه التي تستند على الرأي والاجتهاد وعلى المصالح العامة..