أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَّ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ ا لْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8 ) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌّ مُبِينٌ (9 ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي ا لْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10 )وَقَالَ ا لَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11 ) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَـاناً عَرَبِيّاً لِيُنذِرَ ا لَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12 ) إِنَّ ا لَّذِينَ قَالُوا رَبُّـنَا اللهُ ثُمَّ اسْـتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُـونَ (13 ) أُولئِكَ أَصْحَابُ ا لْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14 ) .
تفيضون فيه : تكثرون القول به ، من تكذيب القرآن ، واتهام النبيّ بالسحر .. الخ .
ما كنتُ بدعاً من الرّسل : البدعـة : هي إنشاء الشيء من غير سـابقة ، والمعـنى ما كان إرسالي بالرسـالة بدعـة ، فأنا لسـت أوّل مَن اُرسل لكي تكذِّبوني ، أي أنّ شـأني في النبـوّة ، هو شأن مَن سـبقني من الأنبياء .
إفك قديم : كذب قديم ، فلا جديد فيه ، وهو كقولهم : أساطير الأوّلين .
ومن قبـله كتاب موسى إماماً ورحمة : الإمام هو كل ما يُقتدى به ، إنساناً كان ، أو كتاباً ، أو غير ذلك ، وسمِّي كتاب موسى ، التوراة إماماً ، لأ نّه منهج هداية ، ودليل للإنسان يُقتدى به في مسير الحياة ، ولذا يسمّى القرآن إماماً أيضاً .
ويصف القرآن موقف الإنسان الضال المعاند بجهله واستكباره على الحق .. يصف كيفية تعامله مع الأدلّة البيِّنة ، والآيات الحقّة إذا تتلى عليه .. إنّ هذا المعاند المستكبر يصفها بأنّها سحر .. انّه يتّهم ما لا يملك الردّ العلمي والعقلي عليه بأنّه سحر ، ذلك ليبّرر عناده وكفره وعجزه عن مواجهة الدليل .. وإن لم يتّهموه سحراً وخداعاً ، فانّهم يتهمونك يا محمد بأنك افتريته ، اختلقته من عند نفسك ، ولم يكن وحياً من عند الله ..
وحين يفيضون في هذا الحديث ، فقل لهم يا محمّد : الله أعلم بأنّ ما تفيضون فيه .. ما تخوضون فيه من تهم وتكذيب ، هو باطل ، وأنكم لا تملكون لي من الله دفاعاً ولا شفاعة .. ان افتريته على الله ، وكفى بالله شهيداً بيني وبينكم ، بأنّه وحي منزل من الله سبحانه .
ثم يعقّب بعد هذا الحوار بقوله : (وهو الغفور الرّحيم ) . إنّه إشـعار لهم بأنّ منزل القرآن غفور رحيم ، يفتح أمامهـم باب العفو والمغفرة ، إن هم رجـعوا وتابوا ، رغـم ما أفاضوا فيه من قول الباطل والتهم ..
(قل ما كنت بدعاً من الرسل... ) .
وفي هذه الآية يدعو الوحي النبيّ (عليه السلام) ، أن يرد على تساؤلات وإشكالات المشركين على شخص النبيّ وعلى نبوّته ، ويوضِّح لهم أنّ نبوّته هي امتداد لمسيرة الأنبياء ، فهو ليس أوّل نبي بعث حتى يثار هذا الاستغراب والتعجّب من أن يبعث الله بشراً رسولاً بل قد بعث الله قبله آلاف الأنبياء وهم يعرفون ذلك .
وما هو إلاّ نبيّ مرسل ، وبشر يوحى إليه ولا علم له بالغيب ، وما يخبئ القدر له ولهم في الدنيا من أحداث ووقائع فذلك غيب لا يعلمه إلاّ الله سبحانه ، وما هو الاّ نبيّ يوحى إليه فيتّبع ما أوحي إليه ، ويبلِّغ ما أنزل إليه ، ويوضح للبشرية طريق الهدى والحياة ، شأنه في ذلك شأن بقيّة المرسلين ..
ثم يواصل القرآن حثّ النبيّ على إيراد الإشكالات عليهم ، فيقول له : (قُل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به ... ) .. قل يا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) لهؤلاء اليهود والمكذِّبين برسالتك : ما هو موقفهم وماذا سيقولون ، لو ثبت بالدليل والبرهان انّه وحي منزل من عند الله ، وشهد شاهد من بني إسرائيل بأنك نبي ، وانّ علامات نبوّتك في التوراة التي يتلونها ، ولكنّهم يخفونها ويتكتمون عليها .. ؟ وتتحدّث الروايات عن أنّ الشاهد الذي شهد بنبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأنّ ما جاء في القرآن هو مطابق لما جاء في التوراة الحق ، هو عبدالله بن سلام ، وهو من علماء بني إسرائيل ، فشهد بأنّ التوراة قد بشّرت بالنبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة ، وتذكِّرهم به في مورد آخر ، وهو قوله تعالى : (النبيّ الأُمِّيّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ) الأعراف/ 157 .
وقد أسلم عبدالله بن سلام، وأصرّوا هم على تكذيب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بعنادهم وتنكّرهم للحق .. أنّ أولئك الظالمين لم يستحقوا الهداية لظلمهم وجريمتهم ..
وجدير ذكره أنّ سورة الأحقاف هي سورة مكية ، وانّ عبدالله بن سلام واليهود كانوا في المدينة ، وانّ تلك الأحداث قد وقعت في المدينة ، غير أنّ هذه الآية : (قل أريتم إن كان من عند الله ... ) هي مدنية ، نزلت في المدينة ، بعد نزول آيات سورة الأحقاف بفترة زمنية ، ثم وضعت في هذه السورة المكية ، وتلك ظاهرة متكرِّرة في القرآن ، أن توضع آيات مدنية في سورة مكية ، أو آيات مكية في سورة مدنية .. وقد ذكر المفسِّرون ذلك في تفاسيرهم .
* * *
)وقال الّذين كفروا للّذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه ... ) .
في هذه الآية يعرض القرآن مواقف المعاندين للحق ، ودفاعهم عن مواقفهم من نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطعن بالقرآن ، وبقيمة ما فيه .
وذلك مفاد قولهم لو كان خيراً لما سبقهم غيرهم من الذين آمنوا به . ثمّ هم يلجأون مرّة أخرى إلى الدفاع عن كفرهم بالقرآن بعد أن قامت البيِّنة والدليل .. إنّهم يتهمون القرآن بأنه : (إفك قديم ) .
كذب مفترى ، وأسطورة من أساطير الأوّلين .
ويعقِّب الوحي بالرّد على قولهم : (لو كان خيراً ما سبقونا إليه ) و : (هذا إفك قديم ) .. يعقِّب بقوله : (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً لينذر الّذين ظلموا وبشرى للمحسنين ) .
انّه يعقِّب بهذا القول ليوضِّح أن ما جاء به محمّد ، هو ما جاء به موسى من الإيمان بالله وكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر ، والدعوة إلى هداية الإنسان ومكارم الأخلاق ، وإصلاح الحياة .. فالقرآن مصدِّق لما جاء في التوراة .. وإنّهما متماثلان في هذه المبادئ ; لذا فانّ دعـوة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست بدعاً ، وانّ القرآن هو إمام ورحمة ، وفيه الخير كلّه ، كما كانت التوراة الحقّة .. وفي هذه الآية ردّ على قول الذين قالوا : (لو كان خيراً ما سبقونا إليه ) .. وفيها إيضاح أيضاً لقوله تعالى : (وشهد شاهد على مثله ) .. أي انّ ما جاء في القرآن هو مماثل لما جاء في التوراة ، وذلك دليل ربانيته ، فِلَم تكذِّبون بنبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ..
بعد ذلك تذكِّر هذه الآية ، وتلفت الأنظار إلى أنّ القرآن أنزل بلسان عربي مبين ، لينذر بالعذاب مشركي مكة ، الذين ظلموا أنفسهم والآخرين بكفرهم ، وليبشِّر المحسنين بأحسن الجزاء .. والآية تشـير أيضاً إلى أنّ لا فرق بين الدعوتين ، دعوة موسى (عليه السلام) ، ودعوة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ; بمبادئهما الأساسية ، إنّما الفرق في لغة الخطاب ، فهذا القرآن جاء بلسان عربي مبـين ، والتوراة جاءت بلغة موسى وقومـه ، وتلك سنّة الله سبحانه في الخطاب ، تقتضيها ضرورات الوضع البشري .. قال تعالى : (وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسانِ قومه ليبيِّن لهم ) .
* * *
)إنّ الّذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) .
وفي هذه الآية يتحدّث القرآن عن الإيمان والاستقامة السلوكية ، ومصير المؤمنين يوم الجزاء .. إنّه يوضِّح للإنسان المخاطب انّ الإسلام إيمان وعمل ، عقيدة في القلب ، وسلوك عملي في الحياة .. إنّ الذي يقول ربِّي الله ، عليه أن يستقيم على التوحيد ، فلا ينحرف عنه ويجسِّد هذا الإيمان سلوكاً واستقامة في الحياة ، بعيداً عن الانحراف والعدوان .. فلا كذب ولا ظلم ولا غش ، ولا عدوان على حياة الآخرين أو كراماتهم أو أعراضهم أو أموالهم أو حقّهم في الحياة .. عليه أن يسير في الخط المستقيم المنطلق من الإيمان بالله .. مُنطلَق العبودية وحده ، وتحرير العقل والسلوك من عبادة الطواغيت والهوى والشهوات ، وبذا يكشف القرآن عن منهجه في بناء الإنسان ، في مجالات الفرد والمجتمع والدولة، والعلاقات الإنسانية جميعها .
إنّه يريد أن يبني الحياة على أساس الإيمان بالله والاستقامة ; لذا خاطب نبيّه الكريم في آية أخرى بقوله : (فاستَقِم كما اُمِرْتَ ولا تتّبع أهواءهم ) .
انّ الذين آمنوا واستقاموا على الإيمان ، ولم ينحرفوا عن مبادئه ومقرّراته لهم الجزاء الأوفى ، ولا خوف عليهم يوم الحساب ، ولا يحزنهم الفزع الأكبر يوم الأهوال .
أولئك هم أصحاب الجنة خالدين فيها أبداً ، فرحين بما آتاهم الله جزاء بما كانوا يعملون .. فليس للإنسان إلاّ ما عملت يداه ، وما قدّم من خير عمل في هذه الدنيا .
* * *