تباهى المسلمون بجدارة وإستحقاق بهذه الصفة عبر العصور وافتخروا بها على باقي الأمم. وكانوا قد فازوا بهذه الرتبة بدخولهم في دين الله وإتباعهم رسول عصرهم بعدما انكره المشركون وأتباع الأديان الأخرى. وتلا ذلك وحينما لبث باقي العالم في غمرات الظلمة والجهل ومرت اوربا في العصور المظلمة, أن مَلكَ المسلمون الدنيا وحكموا فيها من سواحل المحيط الأطلسي من ناحية الغرب, الى الصين شرقا. وتشعشعت انوار العلوم في الطب والهندسة والكيمياء وغيرها, وسطع ضياء الثقافة والفنون وازدهرت الحضارة الإسلامية وعاش الناس في طمأنينة العدل.
وقبل ان فاز المسلمون بهذه الرتبة وقبل ايمان العرب والأعاجم بدين الله, كانت قد سبقتهم بهذا الفخر ملل اخرى. فبني إسرائيل مثلا كانوا دائما (ولازالوا) يدعون انفسهم "شعب الله المختار" ونجد في القرآن الكريم انه قد كان في وقت ما, صحة لهذا الإدعاء:
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِين 47 - (البقرة)
أما بعد مجيء عيسى(ع) وعند فشل اليهود في عرفانه والإيمان به, أخذ الله منهم هذه الميزة الشريفة وأعطاها لأتباع المسيح وأوعد الكافرين بالعذاب الشديد كما نرى في الآية:
إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 55 فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ 56 - (آل عمران)
ولما جاء الرسول محمد(ص) متمما لما جاء قبله ومحققا لنبؤات الأديان السابقة لكي يهدي الناس الى سبيل الحق ويبعث حياة جديدة في العالم وينمي روابط الأخوة والتعاون بين الناس, رفضه ولم يؤمن به سوى أقل القليل من اليهود والنصارى. فهكذا خسروا النعمة وحرموا أنفسهم من هذا الفضل العظيم بينما فاز الذين اتبعوه بشرف الإيمان وشرف الرتبة العليا بين الأمم وصاروا خير أمة أخرجت للناس.
وعند قرائتنا هذه الآية الكريمة بتمعن, نفهم إن هذه الرتبة الراقية والإمتياز الخاص مشروط بالأعمال الطاهرة والأخلاق الكريمة, أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمتناع عن السلوك في مناهج السالفين من أتباع الأديان السابقة:
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ 110 - (آل عمران)
فلو قلنا "خير أمة أخرجت للناس" ولم نتبعها بـ "تأمرون بالمعروف وَتَنْهَوْن عن المنكر..." لكان ذلك مشابها لقولنا "لا تقربوا الصلاة" دون أن نكمل "وأنتم سكارى".
--------------------------------------------------------------------------------
وكل الأديان السماوية جائت للتوفيق بين الناس ولتدعيم روابط الصلة والمحبة بينهم "إخوانًا على سرر متقَبلين", وما أجمل تعبيره تعالى وما أحلى قوله موضحًا هذه الغاية:
وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 103 وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ... 104 - (آل عمران)
وتكملة الآية الكريمة:
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ 104 - (آل عمران)
ونرى بكل الوضوح ان الله تعالى لايحب ان يرى فينا آثار الخلاف والضغينة والخصام الى درجة بحيث نقرأ انه لا ينبغي للناس ان ينتسبوا الى الرسول ودينه أو حتى أن يتسموا بإسمه دون أن يكونوا متحدين في دينهم ومتعاونين على البر والتقوى, وإن تفرقوا, تبرأ منهم الرسول حسب الآية الكريمة:
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ 159 - (الأنعام)
ورأينا في زمن موسى(ع) عندما كان اليهود من بين حواليهم, وحدهم ممن آمن بالله, فضّلهم عز وجل على غيرهم. ولما آمن النصارى بالنور العيسوي صاروا هم أحباء الله. ولكن كل من هاتين الأمتين ضعف ايمانها وتركت تقواها وتفرقت وصارت مللا وأحزابا فأبعدت نفسها عن فضل مولاها:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ 18 (المائدة)
ومن رحمة الله الواسعة نجد انه قد حذر المسلمين ان لا يتبعوا مسالك من قبلهم لكي لا يكرروا أخطائهم وخطاياهم:
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ 105 - (آل عمران)
فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم 65 - (الزخرف)
وساوى الله تفرق الأمة وتعدد الأحزاب بالشرك عندما تصبح كل فرقة وأتباعها عبيدا لطرقهم دون الله وفرحين بأهوائهم:
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ 31 مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ 32 - (الروم)
ونعوذ بالله من الخصومات السياسية والتنازع والتفرقة التي نراها حولنا اينما نظرنا من الذين تسموا بالإسم وتركوا الحقيقة وركضوا خلف أهوائهم طمعًا بالرياسة وطمعا بالمصالح الشخصية ومن أتباعهم الذين سمحوا لأنفسهم أن ينقادوا دون أن يتمحصوا حقيقة دينهم ورضوا لأنفسهم أن يقتلوا اخوانهم في الدين حتى في الشهر الحرام حينما تنزه عن ذلك عرب الجاهلية رغم شراستهم وقساوة قلوبهم. هؤلاء يدّعون تمسكهم بالقرآن والقرآن يقول:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا 92 - (النساء)
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا 93 - (النساء)
ولا نرى ولا نسمع اليوم من أي مفتي أو فقيه أو مجلس شورى أية فتوى أو نصيحة تنبه الناس على هذا الخطأ العظيم ولا ندري إن كان ذلك لعدم المبالاة أو لرضائهم عن هذه الأعمال أو لخوف أو وجل. وتفضل رسول الله عليه الصلاة والسلام في وصف هذه الأيام وعن قلة المؤمنين الحقيقيين من أتباعه فقال:
حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال
قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة قال فكبرنا ثم قال أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة قال فكبرنا ثم قال إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة وسأخبركم عن ذلك ما المسلمون في الكفار إلا كشعرة بيضاء في ثور أسود أو كشعرة سوداء في ثور أبيض - صحيح مسلم 324 , (وأيضا في البخاري)
حدثنا روح حدثنا شعبة قال سمعت حصينا قال كنت عند سعيد بن جبير فقال عن ابن عباس
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب فقلت من هم فقال هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يعتافون وعلى ربهم يتوكلون - مسند أحمد - 1615
حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن زياد الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا ومن هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي - سنن الترمذي- الإيمان عن رسول الله
وفي كتاب بحار الأنوار للعلامة المجلسي - باب الرجعة- مجلد 13 ص155 :
سيأتي زمان على أمتي لا يبقى من القرآن إلا رسمه ولا من الإسلام إلا إسمه يسمون به وهم أبعد الناس منه مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى .... (إلى نهاية الحديث. - تفس الحديث في كتاب كنز العمال عن الحاكم في تاريخه عن ابن عمر والديلمي عن معاذ تحت رقم 766 "سيأتي على الناس زمان")
والأمور لا تقتصر مع الأسف على تعدد الطوائف وكثرة الأحزاب فامراض المجتمع يعرفها الجميع وتدهور الأخلاق وفسادها قد عم البلاد. فهل من مصلح يرجع الإسلام الى أوجه السامي ويوحد الأمة ويستعيد شرف التسمّي بخير أمة؟ ونقرأ في كتاب الله:
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم 38 - (ص)
فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا (35:43 - فاطر)